محفوظةٌ هي لغتنا بالقرآن الكريم الذي شرّفها ونزل بها للعالمين، لذا فلن تتدهور أبدًا، رغم وجود معاول كثيرة اجتمعت على هدم مكانتها وإهدار قيمتها، منها ما وقر لدى البعض من تحقيرها، والانتقاص من قيمتها، وكسر هيبتها في نفوسهم، وكذلك رفع راية اللهجات المحلية في وسائل الإعلام، و"دبلجة" المسلسلات الأجنبية بها خاصة تلك التي تخاطب الطفل لينشأ ضعيفًا بلسان عربي غير مُبين.
صعوبة المناهج الدراسية وتقديمها بشكل غير مشوِّق للطالب عائق آخر كؤود، وكذا ضعف مستوى المُعلِّم والذي بدوره يبثّ -دون أن يدري- كراهية اللغة في نفوس طلابه، إهمال تدريس القرآن الكريم بقواعد تجويده ومخارج حروفه وصفاتها وهو مصدر قواعد لغتنا وتقويم ألسنتنا والتي يجب أن يبدأ من المراحل المبكرة لتعليم الطفل، لا فرق بين مسيحي ومسلم، فالمسيحي العربي لغته وثقافته عربية عليه أن يتقنها كذلك.. وهنا لن ننسى "فكري مكرم عبيد" ذلك المفكر والسياسي والمحامي المصري المُفَوه؛ الذي ألحقه والده بالكُتّاب ليحفظ القرآن الكريم رغم كونه مَسيحيًّا، وحين سُئِل قال: كي يستقيم لسانه ويصبح خطيبًا مفوهًا.. وكان له ما أراد لوَلَده.
انتشار المدارس ذات المنهج الأجنبي في بلادنا بل وطننا العربي كله منذ مرحلة الروضة جعل الطالب طيلة يومه يتحدث لغة أجنبية في سبْع حصص، وحصة واحدة خُصّصتْ للعربية؛ فباعدت بينهما المسافات، وانتفتِ الألفة، رغم أن دولاً أوروبية متقدمة -ألمانيا مثلاً- لا تسمح بلغة ثانية قبل المرحلة الإعدادية، ليتمكَّن مِن لغة بلده ويتحصن بثقافتها.. كذلك بالقرن الماضي -ببلادنا- كان تعلُّم اللغة الأجنبية يبدأ من المرحلة الإعدادية، بعد أن يكون الطالب قد أتقن العربية لغة وثقافة.. ولا يُخشى عليه بعد ذلك مِن تعلُّم لغة أخرى، خاصةً ونحن ندرك أن اللغة تأتي بثقافة أهلها، بمعنى أن تدريس لغة أجنبية للطفل مذ نعومة أظافره تغرس في نفسه عادات وتقاليد وحضارة أهل تلك اللغة، ولن ننكر أن أولادنا تأثروا بها وعاشوا انفصالًا وتمزقًا بين قيمنا وعاداتنا.. وبين قيم الغرب وعاداته التي تعلموها مع اللغة الغربية.
كيف لنا التصدى لكل هذه التحديات التي تواجه لغتنا العربية؟ العلاج مُمكنًا لو صدقت النوايا وكلّلتها الجهود، سيّما المعنيين بالتعليم والثقافة والإعلام ومجامع اللغة.
بداية الحل إعادة الاعتبار للكُتّاب وتحفيظ القرآن داخل المساجد لتقويم اللسان من الصغر، مع تقديم هدايا ومسابقات لتحفيز الأطفال، العمل على تأهيل معلم اللغة وإعادة الاعتبار له وللمعلمين بصفة عامة، فلا يجب أن يلتحق بكليات التربية إلا اصحاب الدرجات المرتفعة في الثانوية العامة، والطالب الراغب في دراسة اللغة لابد أن يجتاز اختبارات قبول، فالمُعلم تقع على عاتقه مهمة تعليم وتربية الأجيال على اختلاف التخصصات، وعلى كاهلهم بدورهم يتم إنهاض الوطن، لذا نجد أنّ راتبه في "ألمانيا" من أعلى الرواتب، ويتم تقديره في كل المحافل.
إعادة الاعتبار لحصة المكتبة المدرسية الأسبوعية؛ وفيها يتم إعارة الطالب كتابًا أسبوعيًّا ليعيده مصطحبًا ملخصًا له باللغة العربية يقوم بقراءته في الحصة التالية أمام زملائه، وكذا رصد جوائز رمزية للأفضل، وإحياء أنشطة جماعة الأدب؛ والصحافة؛ والمكتبات؛ والخَطابة؛ ومجلات الحائط؛ والإذاعة المدرسية كل صباح لصقل القدرات والمواهب.
في رأيي، لن نستطيع تحقيق ذلك إلا بعمل دورات تأهيلية للمعلمين كما فعلتْ "سنغافورة"، مع تعديل المنهج الجامعي بإدخال مساقات دراسية جديدة لتدريس العربية في الكليات -كافّة- العلمية منها والأدبية.
إعادة تأهيل الإعلاميين بدورات متخصصة، وإلزامهم اعتماد الفصحى في حواراتهم، والحرص على ترجمة ودبلجة المسلسلات الأجنبية بالفصحى السهلة أو -البيضاء كنا يطلق عليها المثقفون- ليفهمها العامة.
أما وزارة الثقافة فعليها الاضطلاع بمهامها؛ فلا تَقبل أبدًا طبْع أو نشْر أو توزيع أي مؤلَّف بالعامية، اللهم إلا شِعر العامية فقط؛ شرْط أن تكون عامية راقية غير مُسَفّة، وخفض سعر الكتاب ليغدو في متناول العامّة، وإعادة مشروع "القراءة للجميع" وطبع أُمّهات الكتب، في طبعة رخيصة تكون في متناول الجميع، هذا إلى جانب إعادة الاعتبار للمكتبات العامة والمتنقلة، مع تشجيع الأطفال بكافة الوسائل لجذبهم إليها، وتوفير أجهزة "الحاسوب" ليقرؤوا عليها الكتب والقصص؛ فتلك مفردات عصرهم، إذ لم يعد للكتاب الورقي مكانةً في نفوسهم، وإنشاء موقع الكتروني رسمي يتبع الوزارة يساهم في نشر إبداعات الأطفال مِن شِعر؛ أو زجل؛ أو قصص؛ أو ملخص لكتاب؛ أو معلومة أو خبر، وأعتقد أنها ستصبح بديلاً رائعًا أو معاونًا لمجلة الحائط المدرسية.
أما مجامع اللغة العربية؛ المنتشرة بالقاهرة وتونس والجزائر ومكة والمدينة والأردن ولبنان وبغداد ودمشق وحيفا والرباط والسودان وليبيا؛ فلا يمكن أن نصدق أن تلك المجامع غير قادرة على إعادة كتابة قواعد اللغة والنحو والصرف بشكل أكثر تشويقًا لأبنائنا، وإلا فما بال اللغات الأخرى تتفوق علينا في هذا المجال؟!
---------------------------
بقلم: حورية عبيدة